تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 102 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 102

102 : تفسير الصفحة رقم 102 من القرآن الكريم

** لاّ يُحِبّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعاً عَلِيماً * إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهْ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ فَإِنّ اللّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً
قال ابن أبي طلحة, عن ابن عباس في الاَية يقول: لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد إلا أن يكون مظلوماً فإنه قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه وذلك قوله: {إلا من ظلم} وإن صبر فهو خير له وقال أبو داود حدثنا عبد الله بن معاذ حدثنا أبي, حدثنا سفيان, عن حبيب, عن عطاء, عن عائشة, قالت: سرق لها شيء فجعلت تدعو عليه, فقال النبي صلى الله عليه وسلم «لا تسبخي عنه» وقال الحسن البصري: لا يدع عليه, وليقل: اللهم أعني عليه, واستخرج حقي منه, وفي رواية عنه قال: قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه من غير أن يعتدي عليه.
وقال عبد الكريم بن مالك الجزري في هذه الاَية: هو الرجل يشتمك فتشتمه, ولكن إن افترى عليك فلا تفتر عليه, لقوله: {ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل}. وقال أبو داود: حدثنا القعنبي, حدثنا عبد العزيز بن محمد عن العلاء, عن أبيه, عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المستبّان ما قالا, فعلى البادىء منهما ما لم يعتد المظلوم» وقال عبد الرزاق: أنبأنا المثنى بن الصباح عن مجاهد في قوله {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم} قال: ضاف رجل رجلاًفلم يؤد إليه حق ضيافته, فلما خرج أخبر الناس فقال: ضفت فلاناً فلم يؤد إلي حق ضيافتي, قال: فذلك الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم حتى يؤدي الاَخر إليه حق ضيافته. وقال ابن إسحاق, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم} قال: قال: هو الرجل ينزل بالرجل فلا يحسن ضيافته, فيخرج فيقول: أساء ضيافتي ولم يحسن, وفي رواية: هو الضيف المحول رحله, فإنه يجهر لصاحبه بالسوء من القول, وكذا روي عن غير واحد عن مجاهد نحو هذا, وقد روى الجماعة سوى النسائي والترمذي من طريق الليث بن سعد, والترمذي من حديث ابن لهيعة, كلاهما عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير مرثد بن عبد الله عن عقبة بن عامر, قال: قلنا: يارسول الله, إنك تبعثنا فننزل بقوم فلا يقرونا, فما ترى في ذلك ؟ فقال: «إذا نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف, فاقبلوا منهم, وإن لم تفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم».
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة سمعت أبا الجودي يحدث عن سعيد بن مهاجر عن المقدام بن أبي كريمة, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أيما مسلم ضاف قوماً فأصبح الضيف محروماً, فإن حقاً على كل مسلم نصره حتى يأخذ بقرى ليلته من زرعه وماله» تفرد به أحمد من هذا الوجه, وقال أحمد أيضاً: حدثنا يحيى بن سعيد عن شعبة, عن منصور, عن الشعبي, عن المقدام بن أبي كريمة, سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليلة الضيف واجبة على كل مسلم, فإن أصبح بفنائه محروماً كان ديناً له عليه, فإن شاء اقتضاه وإن شاء تركه». ثم رواه أيضاًعن غندر عن شعبة. وعن زياد بن عبد الله البكائي عن وكيع وأبي نعيم, عن سفيان الثوري, ثلاثتهم عن منصور به, وكذا رواه أبو داود من حديث أبي عوانة عن منصور به.
ومن هذه الأحاديث وأمثالها, ذهب أحمد وغيره إلى وجوب الضيافة, ومن هذا القبيل الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا عمرو بن علي حدثنا صفوان بن عيسى, حدثنا محمد بن عجلان عن أبيه, عن أبي هريرة أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: إن لي جاراً يؤذيني, فقال له «أخرج متاعك فضعه على الطريق», فأخذ الرجل متاعه فطرحه على الطريق, فكل من مر به قال: مالك ؟ قال: جاري يؤذيني, فيقول: اللهم العنه, اللهم أخزه, قال: فقال الرجل: ارجع إلى منزلك, والله لا أوذيك أبداً, وقد رواه أبو داود في كتاب الأدب عن أبي توبة الربيع بن نافع, عن سليمان بن حيان أبي خالد الأحمر عن محمد بن عجلان به, ثم قال البزار: لا نعلمه يروي عن أبي هريرة إلا بهذا الإسناد, ورواه أبو جحيفة وهب بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم, ويوسف بن عبد الله بن سلام عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {إن تبدوا خيراً أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفواً قدير} أي إن تظهروا أيها الناس خيراً أو أخفيتموه أو عفوتم عمن أساء إليكم, فإن ذلك مما يقربكم عند الله ويجزل ثوابكم لديه, فإن من صفاته تعالى أن يعفو عن عباده مع قدرته على عقابهم, ولهذا قال: {فإن الله كان عفواً قدير}, ولهذا ورد في الأثر أن حملة العرش يسبحون الله, فيقول بعضهم: سبحانك على حلمك بعد علمك, ويقول بعضهم: سبحانك على عفوك بعد قدرتك, وفي الحديث الصحيح «ما نقص مال من صدقة, ولا زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً, ومن تواضع لله رفعه».

** إِنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَـَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مّهِيناً * وَالّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ أُوْلَـَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً
يتوعد تبارك وتعالى الكافرين به وبرسله, من اليهود والنصارى حيث فرقوا بين الله ورسله في الإيمان فآمنوا ببعض الأنبياء وكفروا ببعض بمجرد التشهي والعادة, وما ألفوا عليه آباءهم لا عن دليل قادهم إلى ذلك, فإنه لا سبيل لهم إلى ذلك, بل بمجرد الهوى والعصبية, فاليهود ـ عليهم لعائن الله ـ آمنوا بالأنبياء إلا عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام, والنصارى آمنوا بالأنبياء وكفروا بخاتمهم وأشرفهم محمد صلى الله عليه وسلم, والسامرة لا يؤمنون بنبيّ بعد يوشع خليفة موسى بن عمران, والمجوس يقال إنهم كانوا يؤمنون بنبي لهم يقال له زرادشت, ثم كفروا بشرعه فرفع من بين أظهرهم, والله أعلم, والمقصود أن من كفر بنبي من الأنبياء فقد كفر بسائر الأنبياء فإن الإيمان واجب بكل نبي بعثه الله إلى أهل الأرض, فمن رد نبوته للحسد أو العصبية أو التشهي, تبين أن إيمانه بمن آمن به من الأنبياء ليس إيماناً شرعياً, إنما هو عن غرض وهوى وعصبية, ولهذا قال تعالى: {إن الذين يكفرون} با لله ورسله فوسمهم بأنهم كفار بالله ورسله, ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله أي في الإيمان, {ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيل} أي طريقاً ومسلكاً, ثم أخبر تعالى عنهم فقال: {أولئك هم الكافرون حق} أي كفرهم محقق لا محالة بمن ادعوا الإيمان به, لأنه ليس شرعياً إذ لو كانوا مؤمنين به لكونه رسول الله, لاَمنوا بنظيره وبمن هو أوضح دليلاً وأقوى برهاناً منه, أو نظروا حق النظر في نبوته.
وقوله: {وأعتدنا للكافرين عذاباً مهين} أي كما استهانوا بمن كفروا به, إما لعدم نظرهم فيما جاءهم به من الله وإعراضهم عنه وإقبالهم على جمع حطام الدنيا مما لا ضرورة بهم إليه, وإما بكفرهم به بعد علمهم بنبوته, كما كان يفعله كثير من أحبار اليهود في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث حسدوه على ما آتاه الله من النبوة العظيمة وخالفوه وكذبوه وعادوه وقاتلوه, فسلط الله عليهم الذل الدنيوي الموصول بالذل الأخروي {وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله} في الدنيا والاَخرة. وقوله: {والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم} يعني بذلك أمة محمد صلى الله عليه وسلم, فإنهم يؤمنون بكل كتاب أنزله الله وبكل نبي بعثه الله, كما قال تعالى: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن با لله} الاَية, ثم أخبر تعالى بأنه قد أعد لهم الجزاء الجزيل والثواب الجليل والعطاء الجميل, فقال: {أولئك سوف يؤتيهم أجورهم} على ما آمنوا بالله ورسله {وكان الله غفوراً رحيم} أي لذنوبهم, أي إن كان لبعضهم ذنوب.

** يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مّنَ السّمَآءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَىَ أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُوَاْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمّ اتّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَىَ سُلْطَاناً مّبِيناً * وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجّداً وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مّيثَاقاً غَلِيظاً
قال محمد بن كعب القرظي والسدي وقتادة: سأل اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتاباً من السماء كما نزلت التوراة على موسى مكتوبة, قال ابن جريج: سألوه أن ينزل عليهم صحفاً من الله مكتوبة إلى فلان وفلان وفلان بتصديقه فيما جاءهم به, وهذا إنما قالوه على سبيل التعنت والعناد والكفر والإلحاد, كما سأل كفار قريش قبلهم نظير ذلك كما هو مذكور في سورة سبحان {وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوع} الاَيات, ولهذا قال تعالى: {فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم} أي بطغيانهم وبغيهم, وعتوهم وعنادهم, وهذا مفسر في سورة البقرة حيث يقول تعالى: {وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون}.
وقوله تعالى: {ثم اتخذوا العجل من بعدما جاءتهم البينات} أي من بعدما رأوا من الاَيات الباهرة والأدلة القاهرة على يد موسى عليه السلام في بلاد مصر, وما كان من إهلاك عدوهم فرعون وجميع جنوده في اليم, فما جاوزوه إلا يسيراً, حتى أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم فقالوا لموسى {اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة} الاَيتين, ثم ذكر تعالى قصة اتخاذهم العجل مبسوطة في سورة الأعراف, وفي سورة طه, بعد ذهاب موسى إلى مناجاة الله عز وجل, ثم لما رجع وكان ما كان, جعل الله توبتهم من الذي صنعوه وابتدعوه, أن يقتل من لم يعبد العجل منهم من عبده, فجعل يقتل بعضهم بعضاً, ثم أحياهم الله عز وجل, وقال الله تعالى: {فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطاناً مبين} ثم قال: {ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم} وذلك حين امتنعوا من الالتزام بأحكام التوراة, وظهر منهم إباء عما جاءهم به موسى عليه السلام, ورفع الله على رؤوسهم جبلاً, ثم ألزموا فالتزموا وسجدوا, وجعلوا ينظرون إلى فوق رؤوسهم, خشية أن يسقط عليهم, كما قال تعالى: {وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة} الاَية, {وقلنا لهم ادخلوا الباب سجد} أي فخالفوا ما أمروا به من القول والفعل, فإنهم أمروا أن يدخلوا باب بيت القدس سجداً وهم يقولون حطة, أي اللهم حط عنا ذنوبنا في تركنا الجهاد ونكولنا عنه, حتى تهنا في التيه أربعين سنة, فدخلوا يزحفون على أستاههم وهم يقولون: حنطة في شعرة {وقلنا لهم لا تعدوا في السبت} أي وصيناهم بحفظ السبت والتزام ما حرم الله عليهم, ما دام مشروعاً لهم {وأخذنا منهم ميثاقاً غليظ} أي شديداً, فخالفوا وعصوا وتحيلوا على ارتكاب ما حرم الله عز وجل, كما هو مبسوط في سورة الأعراف عند قوله: {واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر} الاَيات, وسيأتي حديث صفوان بن عسال في سورة سبحان عند قوله: {ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات} وفيه: وعليكم خاصة يهود أن لا تعدوا في السبت.